موقفنا من الثقافة المعادية
علي البتيري*
الحديث عن وسائل حماية وتحصين ثقافتنا العربية من غزو الثقافات الأخرى لا يتوقف، وسبيل البحث في هذا الموضوع ما زال جاريا، ويفيض بالاقتراحات والاجتهادات الوقائية التي تصب في ضرورة المواجهة والتصدي لهذا الداء الثقافي القديم الجديد الذي لا يكف عن التسلل إلى عقر دارنا العربية بوجوه أجنبية متعددة، وإن لبس زيا عربيا وتخفّى بأقنعة تشبه وجوهنا.
هذا عن الغزو الثقافي الأجنبي، ولكن ماذا عن الثقافة المعادية لنا ولثقافتنا في بلاد الآخرين، وبخاصة في الغرب الذي يسد آفاق وعيه وتهيمن على أجوائه الثقافية قوى الإعلام الصهيونية التي لا تنفك تضمر العداء للعرب وللمسلمين؟
بطرس الناسك
إذا كان بطرس الناسك قد ركب حماره ذات زمن مشحون بالعداء يبيع صكوك الغفران من أجل تحرير المقدسات المسيحية في الشرق العربي، ومشعلا لهيب الحروب الصليبية، فإننا في زمن الفُرقة العربية والضعف العربي الإسلامي الظاهر للعيان نفاجأ بين الحين والآخر بأكثر من بطرس ناسك يروج لصكوك غفران من نوع آخر، من أجل إذكاء روح العداء لنا ولثقافتنا في المجتمعات الأوروبية والأميركية، بحيث يتم ترسيخ ثقافة معادية لكل ما هو عربي أو مسلم.
"كيف نتعامل مع هذا المد المتجني على ثقافتنا وحضارتنا الذي يجري في زمن ألغت فيه الثورة الإلكترونية حساب المسافات البعيدة، بحيث لم تعد هناك صعوبة تذكر في مسألة التواصل أو الوصول إلى أي مكان في لحظات؟"
وهذه الموجات التي تعلو على السطح بين الفينة والأخرى تظهر عداء ثقافيا يتم تعميقه في صميم الثقافة الغربية، وتفوح منه رائحة صهيونية مريبة.
وهنا يستوجب القول: أين نحن من كل هذا؟ وكيف نتعامل مع هذا المد المتجني الذي يجري في زمن ألغت فيه الثورة الإلكترونية حساب المسافات البعيدة، بحيث لم تعد هناك صعوبة تذكر في مسألة التواصل أو الوصول إلى أي مكان في لحظات؟
منذ أن ظهرت الرسوم المسيئة لرسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في صحيفة دانماركية ونشرتها صحف أخرى أوروبية، وبعدما أنتج نائب هولندي فيلم "الفتنة" المسيء لهادي البشرية وخاتم المرسلين، قلنا لمن صدمهم الأمر: فتشوا عن الأصابع الصهيونية التي تعمل على حياكة نسيج الكراهية للعرب والمسلمين.
قلنا وأكدنا مرارا أن الانفعالات والتشنجات والاحتجاجات ذات الصوت الصاخب والعالي -رغم تعبيرها عن ردات فعل صادقة- لن توقف أو تلجم على الأقل هذه الحمحمات الثقافية التي تأخذ طابعا فنيا يزداد جموحا وتماديا.
ولعل عدم الاطلاع الثقافي والمتابعة المستمرة لما يحاك في الخفاء وخلف الكواليس يجعلنا نحسب ونظن أن هذه الثقافة المعادية قد انحسرت وخبا جمرها، مع أن رياح الكراهية ما زالت في الأجواء، وسموم الحقد التاريخي على العرب والمسلمين ما زالت في مداد بعض كتاب الغرب المتصهينين، وفي ألوان بعض الرسامين منهم، وفي كاميرات بعض المصورين أيضا.
تشويه متعمد
هذا التشويه المبيّت والمتعمد لصورتنا الحضارية ورسالتنا الإنسانية ليس بجديد، وإن تغيرت وسائله وأساليبه وأماكن وأزمنة ترويجه ونشره.
"لا ندعو إلى حشد فيلق عربي من المثقفين العرب، ولا إلى تطوير أسلحتنا الثقافية لردع الإساءات بإساءات مماثلة، وإنما ندعو إلى التحلي بروح دبلوماسية ثقافية وإعلامية أساسها التدبر والتدبير"
نتوقع أن تعود هذه الإساءات الثقافية لديننا وحضارتنا إلى الظهور في أي لحظة، وبشكل ربما يكون أكثر وقاحة وتماديا من ذي قبل، فماذا نحن فاعلون الآن وغدا لمواجهة هذه الثقافة المعادية والتصدي لها، لا بالمسيرات والمظاهرات في شوارع الشرق أو الغرب، وإنما بوسائل فكرية حكيمة مستنيرة ومدروسة؟
ألم نكن -وما زلنا- نتعرض لغزو الثقافات الأجنبية لمجتمعاتنا العربية؟ لماذا لا نفكر بغزوة ولو واحدة تقوم بها ثقافتنا العربية، وقد توفرت لها كل وسائل الاتصالات الإعلامية في ظل هذه الثورة التقنية الإلكترونية المتسارعة بشكل يبهر العقل ويجعل الكرة في مرماه؟
لا ندعو إلى حشد فيلق عربي من المثقفين العرب، ولا ندعو إلى تطوير أسلحتنا الثقافية لردع الإساءات بإساءات مماثلة، وإنما ندعو إلى التحلي بروح دبلوماسية ثقافية وإعلامية أساسها التدبر والتدبير في إطار التخطيط والتفكير لمواجهة هذه الثقافة الضالة والمضللة في عقر دارها، وباللغة التي تفهمها المجتمعات الغربية لا بلغتنا نحن.
ونحن لا نُعدَم كتابا ومفكرين وفنانين أوروبيين وأميركيين يتعاطفون معنا ومع قضايانا، ويتفهمون رسالتنا الحضارية التي تنبذ العداء والكراهية والإرهاب الفكري، ما يظهر منه على ورق أو ما يستثمر في العقول.
ثقافتنا والغرب
لا بد من التكلم مع الغرب بلغته، ولا بد من تنشيط حركة الترجمة لآدابنا وفنوننا ونتاج مفكرينا إلى اللغات الأجنبية لنقول للعالم: هؤلاء نحن وهذه هي حضارتنا العربية التي أنارت عصورا مظلمة، وهذه هي ديانتنا السماوية الداعية إلى المحبة والعدل والسلام.
"علينا أن نعمل على تقوية وتمتين الجسور الثقافية بين شعوب منطقتنا العربية والجاليات العربية في المهجر، بحيث يصبح المثقفون العرب هناك سفراء ثقافتنا"
علينا أن نعمل على تقوية وتمتين الجسور الثقافية بين شعوب منطقتنا العربية والجاليات العربية في المهجر، بحيث يصبح المثقفون العرب هناك -وما أكثرهم- سفراء ثقافة عربية يعملون على نشرها وتوضيح صورتها بكل الوسائل المتاحة، على الرغم من هيمنة قوى الإعلام الصهيوني على النصف الغربي من الكرة الأرضية تقريبا.
إن مواجهة الثقافات الأجنبية المعادية لا تتأتى باحتجاجات ساخنة لا تلبث أن تبرد في حينها، وإنما بعمل ثقافي دؤوب ومستمر نوفر له كل الطاقات والإبداعات والقدرات الإعلامية والفنية.
ولا ينبغي أن يتوجه هذا العمل إلينا، منكفئا على ذاته، وإنما علينا أن نوجهه إلى غيرنا، ولا سيما البلدان التي تظهر فيها بقع العداء الثقافي وتنكشف فيها بؤر التخطيط المريب لهذا العداء الذي لم يأت من فراغ.
المطلوب هو تأسيس ثقافة مواجهة تمتلك القدرة على مواجهة ثقافة الآخر، كما تمتلك القدرة الكافية للدفاع عن نفسها وعن مقدرات أمتها المستهدفة من حين إلى آخر.